الخوري أحد النصوص الأدبية الاستثنائية الكبرى في التجربة القصصية

المنعطف تحتفي بالكاتب الكبير إدريس الخوري
الخوري أحد النصوص الأدبية الاستثنائية الكبرى في التجربة القصصية
عبدالنبي مصلوحي
تصوير: العربي الرطل
“أحن إلى الغابة، أحن إلى الأشجار الخضراء، إلى المياه و الأنهار و إلى هواء نقي يغسل رئتي معا و يزيل ما لصق بهما من دخان السجائر و دخان الحافلات الأسود .. “..” أنا كائن إنساني قادم من قبيلة منسية وميتة مع وقف التنفيذ، كاتب يقف على رصيف الضفة الأخرى….”
هكذا حكى إدريبس الخوري عن نفسه ذات وقت في ذات عمل إبداعي، وما زال يحكي ذات الحكي من عالمه الخاص الذي شيده على التخوم الفاصلة بين الواقع والمتخيل، بين عالم الناس الذي يوجد فيه أصدقاؤه وندماؤه، وبين عالم الكائنات التي لا يراها إلا هو، كائنات افتراضية تؤثث لعوالم الكتابة والإبداع.
هذا هو إدريس الخوري الذي احتفت به جريدة المنعطف مساء الخميس الأخير بإحدى قاعات أحد فنادق الرباط ، عرفانا لما قدمه من إضافات إبداعية وثقافية أغنت الحقل الثقافي في بلادنا، واعترافا به ككاتب وقاص كبير لا يقارن إلا بالكبار، وإعلامي استثنائي في مقالة الرأي والموقف.
كان الحفل استثنائيا لمحتفى به استثنائي، نشطه الزميل عبد العزيز بنعبو، حضره مثقفون ومبدعون وفنانون وإعلاميون، من مختلف المشارب والمدارس، وجدوا في المناسبة فرصة لتوجيه التحية والشكر لمبدع كبير، لم يقل يوما أنه ينتظر الشكر أو العطاء، عاش ويعيش بسيطا متواضعا بين البسطاء من أبناء الشعب، زاده قلمه وخياله، ومادته الناس الذين حولهم بكل تناقضاتهم وعجائبهم في حياة عجيبة وغريبة التنوع والأطوار، ورأسماله أنفته وشموخه الذي يُظهر له المتهافتين على المناصب والمواقع والعطاءات صغارا.
كانت المناسبة، فرصة لتصدح بعض الأصوات الغنائية داخل القاعة، مع بعض تقاسيم العود و الوتر، جاءت بدورها لتقديم التحية والشكر لإدريس الخوري العاشق والقارئ الجيد للموسيقى والعارف بها.
ولد بدرب غلف بالدار البيضاء سنة 1939، انضم إلى اتحاد كتاب المغرب في 1968،
من أعماله القصصية المميزة: حزن في الرأس والقلب، وظلال، والبدايات، و الأيام والليالي، ومدينة التراب، وفضاءات….الخ.
…………..
عمر الحسني في احتفاء “المنعطف” بالكاتب والإعلامي الأستاذ إدريس الخوري
- تحصين المجتمع من كل أشكال التطرف ، والإرهاب المادي والمعنوي، والمعنوي منه أشد وأوسع وأكثر استعصاء على الاجتثاث .. عبر إشاعة ثقافة حرية الإنسان وجعلها جوهر حياة المجتمع ..
- الظرفية التاريخية الراهنة أكثر من أي وقت مضى تفرض جعل الثقافة تحتل موقعا أساس في أي سياسة عمومية للدولة ولمختلف الإطارات التنظيمية المجتمعية ببلادنا .
يعجبني في إدريس الخوري أنفته .. تواضعه وبساطته..يعجبني فيه عشقه للحياة ، ومصارعته لنوائبها بشجاعة نادرة .. هكذا تحدث للحضور الأستاذ عمر الحسني مدير نشر جريدة المنعطف ، وهو يقدم حفل الاحتفاء بكاتب طود تمكن بجد وكفاح العارف بعوالم الكتابة و أسرار الإبداع، أن يحفر لذاته عشقا داخل هذه السراديب المحاطة بالألغام والمطبات..ادريس الخوري، يقول الأستاذ الحسني، عاش نصف قرن بين طيات هذا الكون الكتاباتي مهووسا بالتقاط الممكن واللاممكن إلى فضائه الخاص، حيث فضاء إعادة تشكيل العالم عبر المتخيل واللامرئي الذي لا يراه سواه عبر ثقوب سلطان الإبداع والكلمة المنفتحة على شوارع جديدة من المحبة و العشق للحياة الذي لا ينتهي، ولا يمكن أن ينتهي قبل نهاية الدورة الطبيعية للكون الذي يحضن كاتبنا الكبير.
الاحتفاء الرمزي للمنعطف بالكاتب المبدع والقاص المجدد والمتجدد داخل عالمه المتخيل، يقول الأستاذ الحسني، هو رسالة عرفان واحتفاء بكافة المثقفين والمبدعين في بلادنا، وبما يبدعون ويشكلون من ملامح جديدة للمجتمع الذي نتوق إليه ، كثير منهم تربطهم بالمنعطف كحساسية إعلامية متميزة رغم واقعها الامكانياتي المتواضع الكثير من جسور المحبة والتعاون، منهم من غادر إلى دار البقاء، ولكن أرواحهم الإبداعية مازالت حية تتنفسها كل فضاءات الإبداع وأمكنة أهل الفكر والمتخيل.
الخوري، الكاتب القادم من زمكانية التنوع الإبداعي، احتفاء المنعطف به، هو بالنسبة لمدير نشرها حدث يختزل احتفاء كبيرا بكافة المبدعين الذين يسكنون عالم الواقع ، ومادتهم الخيال والسرد الذي لا يقوى على سلك دروبه والتجول عبر شوارعه إلا من خبَّر الحياة وشرب من تنوعها كإدريس الخوري، وبعض أمثاله من الراحلين عنا .. والذين سيصر التاريخ على ذكرهم كلما تعلق الأمر بالحديث عن المبدعين والكتاب والمفكرين الذين صنعوا للمغرب رؤية جديدة ، تجاوز أثرها حدود جغرافية الوطن ، عبر المتخيل الذي يشابك جسوره في كل الاتجاهات، وعبر كل الأنماط الإبداعية التي تجمع بين كل القراءات الثابتة والزئبقية.
ولأن المناسبة هي الثقافة والمثقف، أبى الأستاذ عمر الحسني في كلمته التقديمية، إلا أن يبعث من خلال مناسبة الإحتفاء بإدريس الخوري برسالة إلى كل الفاعلين ومدبري الشأن العام في بلادنا، كما في بلدان أخرى من العالم الواقعي ، خاصة العربي والإسلامي ، الذي لن يكون أرحب من العالم الافتراضي لكاتبنا الخوري، تؤكد على دور الثقافة في تحصين المجتمع من كل أشكال التطرف ، والإرهاب المادي والمعنوي، والمعنوي منه أشد وأوسع وأكثر استعصاء على الاجتثاث ، عبر “إشاعة ثقافة حرية الإنسان وجعلها جوهر حياة المجتمع، وهي مهمة تدعو بالضرورة ، في الظرفية التاريخية الراهنة أكثر من أي وقت مضى، يرى الأستاذ الحسني، إلى جعل الثقافة تحتل موقعا أساس في أي سياسة عمومية للدولة ولمختلف الإطارات التنظيمية المجتمعية ببلادنا .
الخوري الإنسان..لا يشيخ..جسده ولا يمكن أن ينتمي إلى الرطوبة وفساد الأمكنة
هكذا كذلك وصفه عبدالرحيم العلام، وهو يقرأ بصوت العارف بعوالم الكتابة التي لا تعيش إلا سابحة في فضاءات لا سقوف لسماءاتها غير المُتأمَّل والمتخيل الذي لا يشبه إلا نسفه، في شهادته التي لا تقل إبداعا عما يطرزه كافة المبدعين والقاطنين في أحياء الكلمة وأشكالها المتنوعة، قال العلام، رئيس اتحاد كتاب المغرب، الحياة هي مدرسة الخوري، حيث قبل الجلوس إلى مكتبه يكون قد كتب الواقع بأحاسيسه، و هي ذاتها الشيمة التي ترتبط بكبار الكتاب، سواء الذين مروا ذات زمن من هذه الحياة، أو الذين مازالوا بين ظهرانينا يجاهدون ويجتهدون في صياغة الرؤى التي تليق بالعالم الذي تبصره بصائرهم وأبصارهم، لدى كل هؤلاء، والخوري أحدهم، لا ترتبط الكتابة بطقوس معينة، تخترق شخصيته الكثير من الصور والخصائص التي تجعل معاشرته، يضيف العلام، كلها إحساس بالحياة والدفء، لا يشعر جليسه أنه قادم من الليل، في إشارة إلى المجهول واللا معرفة، وهذه خاصية لا يمكن أن تتوفر إلا لدى شخصية تعشق الاستكشاف والغوص في قراءة أعماق الشخوص، علها تغذي عالمها الخاص، عالم المتخيل.
لإدريس الخوري، يقول العلام في شهادته، عالم إبداعي يوفر برحابته كل شروط التلذذ، اعتبارا لما تتيحه تجربته من سخرية وصفية رائعة ومن تأمل معرفي وذاتي، حيث “يسافر بنا في مقالاته وكتاباته داخل الفضاءات…ينكشف أمامنا عشقه لاكتشاف المعالم، كما تنكشف أمامنا جوانب من ثقافته وقدراته على التنبيه إلى الأشياء التي تأبى أن تنكتب لدى البعض..لكنها تتحول لدى الخوري إلى ثقافة يقدمها بقدرة سردية فارقة…”، إنه حسب العلام، استثنائي في تميزه بشعبيته وانفتاحه على كل ما حوله وبساطته، واستثنائي أيضا في تميزه بصوغ المفارقات الإنسانية، بدأ حياته قادما إليها من أحد دروب الدار البيضاء التي تعج بضوضاء التناقضات والتنوع، بدأ مساره، يضيف عبدالرحيم العلام مثل صديقه زفزاف، إلا انه سرعان ما طلق الشعر واختار السفر في رحاب الخاطرة والقصة والرأي، وهو زخم لا يمكن إلا يكون رافدا من الروافد التي تغري على التأمل في صورة هذا الرجل الاستثنائي الذي يشبه النهر الخالد الذي لا يتوقف عن العطاء، وعن نسج الكثير من الصور والعلائق حول شخصية إدريس الخوري الذي يجد فيه كل أصدقائه الذين يركبون الحرف الإبداعي أباهم الافتراضي القادم من زمن العلاقات الجدلية بين المرئي والمتخيل.
أبيات من الشعر على نبض المحبة و التقدير
لأن اللحظة للإبداع و للعمق الجمالي و للبوح الفكري، كان للحضور الشعري موقع في هذا الإحتفاء من خلال أبيات جادت بها قريحة الاديب الحسين القمري :
ألا كيف يا إدريس موعدك الجميل و هل ظهرت سلا من بعدما ألتبس الدليل
و هل أفضى أبو رقراق بالأسرار لما رسمت خطاه بالأدب الجميل الأصيل
و هل لبست زخارفها سلا و ألقت من مباهجها الحياة السلسبيل
و هل أخذت أبا رقراق بعض دروبه و أغفى بين اليقين و بين الحلم المستحيل
فيا إدريس أيها الخوري أي مهابة حملت حروفك بين صحائف الدنيا و أعماق الدليل
الخوري..معْلم من معالم المغرب الحديث
هذا هو إدريس الخوري، كما يراه حسن نجمي الكاتب والرئيس السابق لاتحاد كتاب المغرب، فهو ركن من أركان البناء الثقافي المغربي، وواحد من الذين صانوا الذاكرة وظلوا على دفاعهم عليها في الكتابة، إنه، يقول الكاتب نجمي، مسلة من مسلات المغرب الحديث، كاتب وصحافي كبير برع في كتابة الرأي والموقف، ما يكتبه من قصص، له صوت و مقاربة تشبهه هو وحده، مشيرا إلى أن الخوري مدرسة في هذه القدرة التي لا تعلن عن نفسها، و التي لا تتأتى إلا لمن هو من طينة الخوري، ابن الشعب.
وقال نجمي في شهادته، في هذه اللحظة التي هي وقفة اعتراف بما راكمه الخوري وما جسده من قيم في الكتابة والممارسة الإبداعية، أن كاتبنا المحتفى به، هو أحد النصوص الأدبية الاستثنائية الكبرى في التجربة القصصية التي ترعرع بين طياتها، وهي تجربة، يضيف نجمي:” كبرنا في نصها وعلى ذراعيها”، مشيرا إلى انه منذ تعرف عليه وهو يتعلم منه، من تعدد حضوره وتنوع إسهامه الصامت والمعلن في إثراء الممارسة الثقافية.
يرى الرئيس الأسبق لاتحاد كتاب المغرب، أن الخوري نجح ككاتب كبير في التجربة السردية، لا يذكر إلى جانبه إلا صاحبه المرحوم زفزاف، وكذا محمد شكري، ثلاثي، وصفه الكاتب نجمي بالعظيم الذي جسد لمسة جديدة في الكتابة السردية المغربية..ادريس الخوري، جاء، يقول نجمي في شهادته، من انتماء يشبه الانتماء إلى قبيلة، في إشارة إلى درب غلف حيث ولد ونشأ، و هو فضاء محلي تحول اليوم إلى فضاء كوني، لهذا كان يتمثل هذا الفضاء في كتاباته، وهو فضاء محلي تحول إلى فضاء كوني، معتبرا من هذه الرؤية الخوري كاتبا محليا وكونيا، لأن متخيله يتمثل فيه تاريخ الكتابة الكونية، يستحضر كل نصوص الكون، يعرف كل أساليب الكتابة، لأنه قارئ كبير، يشتغل على الواقع دون استنساخه، يمارس عليه كل أشكال الممارسات الماكرة.
فالخوري إذن أو با إدريس كما يحب أن يناديه مجالسوه وأصدقاؤه، بعين الكاتب حسن نجمي، كاتب كبير و معلم للكتابة في مدرسة الحياة، معتبرا تكريمه في هذه المناسبة من لدن المنعطف، هو استحضار أيضا لباقي الكتاب والمبدعين المغاربة.
إدريس الخوري …أمير القصة القصيرة
زمن الشعراء دون شعر، زمن الكتاب دون كتابة، زمن الفن دون فنانين، بل زمن الرياء الثقافي الذي تُتبادل فيه الشهادات وتقام فيه حفلات التكريم لتوزيع الألقاب للإرضاء فقط، وليس للجدارة والاستحقاق، زمن لا يُخجل فيه من التطفل و نشر الزيف و إشاعته في فضاء الإبداع والثقافة، حتى ظن الخلق أن كل متعلم مثقف.
من إحدى زوايا هذه الفوضى المفاهيمية والأخلاقية واللاتناسق ، التقط المخرج السينمائي عباس فراق لإدريس الخوري صورته وهو يتفكر بُعده الكوني منزويا بجنبات أحد الأمكنة المفضلة لديه للتأمل في تناقضات الخلق والتقاط عِريِّهم ، التقطه وهو” يُضمِّن ورقة بيضاء شهادته على فتن عصره في زمن الردة الكبرى”.
هكذا أبى فراق في شهادته بمناسبة هذا الاحتفاء ، إلا أن يقتحم على إدريس الخوري خلوته مع ذاته وسط الخلق، ويلتقط بعين المخرج العارف بأهمية التفاصيل في الصورة واحدة من أهم لحظات التأمل والمخاض الإبداعي لبا ادريس، كما يناديه أصدقاؤه ومجالسوه.
قال إنه تعرف عليه بسهولة وسط هذه الفوضى، متحملا عن قناعة عبء فهمه الجيد لواقع الزمن الذي يعيشه، لم يجد حرجا في تشبيهه بالعظماء، القدماء والجدد، الذين عاشوا مثله متمردين متعافين من أوبئة بيع الكرامة والوقوف في طوابير الاسترزاق والتمصلح، مقابل التخلي عن الحرية والأنفة، قال أنه “من طينة هؤلاء العظماء وأمثالهم الذين تركوا بصماتهم على مختلف محطات الذاكرة الإنسانية…”، الخوري، يقول فراق اختار الدرب المعاكس لتيار المتهافتين على التموقع داخل دائرة المنافع والمناصب وانخرط في قضية البسطاء ومعذبي الأرض من متمردين وصعاليك العصر الحديث خارج مربع الأيدلوجيات الضيق، عبر عمق الأزقة المؤدية نحو محطات الهموم المشتركة وقضايا الناس التي جعل منها قضيته الأساس والتي خلدها في آثاره الأدبية والفكرية، وهو ما جعله وبدون منازع أمير القصة القصيرة… فقد أغنى أسس هذا الفن الرائع ليجعل منه مدرسة قائمة الذات عم صداها العالم العربي… “، كل هذا بعبقرية ابن الشعب البسيط الذي له قدرة فائقة على التسلل إلى أعماق الناس والتقاط مآسيهم و أوجاعهم.
كاتبنا المحتفى به …هو تلك “الإلا” التي تفتح المجال أمام التخيل
ولأن الفن والثقافة تربطهما علاقات قوية، لم يكن هذا الحفل الاحتفائي بالكاتب الكبير إدريس الخوري ليمر دون شهادة أحد أهل الفن ممن خبروا و شربوا من رحيق أب الفنون والسينما وغيرهما، ويتعلق الأمر بالفنان محمد الشوبي الذي قدم في حق “با ادريس” الأب الافتراضي لكل أصدقائه ومعاشريه بكافة الأمكنة والفضاءات التي يتخيل فيها شخوص عوالم إبداعاته شهادة برؤية الفنان القادم من الركح، وهي رؤية لا تختلف عن رؤية المثقف والكاتب القادم من طقوسه و رحاب متخيله، قال الفنان المجدد والمتجدد، هو استثنائي فعلا، بل هو تلك “الإلا” التي تفتح لنا المجال أمام التخيل..إدريس الخوري، لا يراه إلا “إلا” التي بدونها يتوقف الكلام و تصمت الأصوات، قال انه لما تعرف على كاتبنا ذات زمن من أزمنة الواقع وليس أزمنة شخوص قصص “با ادريس” وجده أيقونة الحياة الثقافية، معتبرا أنه يمثل الانتصار لما سيأتي، فهو المستقبل، وسقف الثقافة القوي، من طينة الكتاب الذي جاؤوا إلى الإبداع من بوابة النضال، الأمر الذي جعل منه حسب الفنان الشوبي، شعلة الحداثة و إحدى الايقونات التي لا يسهل تجاوزها في مجتمع ما أحوجه إلى شروط التوازنات في المجتمع المغربي.
الخوري .. ذاكرة الأديب الحقيقي الذي يكتب و عينه على المجتمع
مصطفى نحال، بدوره لم تشكل شهادته الاستثناء في قائمة الشهادات السابقة، فهو أيضا يشدد على ميزة الاستثنائية بالنسبة للكاتب إدريس الخوري، فهذا الأخير كما يراه، رجل استثنائي في كل شيء، مع ذاته ومع الآخرين، استثنائي في المحبة التي لا يضمرها والصراحة التي، يقول الأستاذ نحال، كانت سببا في جر الكثير من المشاكل على كاتبنا الكبير، ممن قال أنهم يعيشون بالأقنعة، وهو استثنائي كذلك في التذكر والاستحضار لذاكرات متعددة، فهو، ذاكرة الأديب الحقيقي الذي يكتب و عينه على المجتمع بكل تنوعاته ومتناقضاته.
يكره الانعزالية الصوفية، شخص لا يُمل، فهو لا يشبه نفسه في كل الجلسات، كل جلسة يختلف فيها عن الأخرى، يقول نحال، كلما جالست إدريس الخوري، تجد فيه انسانا آخر ” ، في كل جلسة هو شخص مختلف حكيا وبوحا ووصفا و جدا وهزلا ونميمة ..با ادريس حارس صداقات لا تنسى، وحارس أمكنة لا تضيع”.
وقال الأستاذ محمد نحال بذات الشهادة، أن إدريس الخوري، كاتب برع في كتابة القصة، وهو من أبرز كتابها في المغرب، تجمع في عوالمها بين الحلم والمعاناة، ما يجعلها عالما مسكونا بالاستشراف والضوء نحو المستقبل، ولأنه كذلك، فإن عينه حسب نحال، يقظة في التقاط كل التفاصيل العابرة و الثابتة في الحياة اليومية في كل الفضاءات التي يرتادها، مثلما أن له بصيرة قادرة على الغوص نحو كل الأعماق، فهو كاتب لا يهادن ولا يجامل، ما اكسبه احترام الكتاب المغاربة.
والخوري استثنائي كذلك، في أسلوب كتاباته، وهو حسب نحال، أسلوب غير منمط، وغير قابل للتقليد أو المجاراة، وفي تنوع روافده الثقافية والفنية، فهو عاشق للموسيقى، استثنائي في علاقته مع الكون الذي يخبر أسراره.
و يختم محمد نحال شهادته بنص من أحد أعمال إدريس الخوري، يتحدث فيه عن نفسه قائلا:” أنا رجل أحب الحياة و اكره الانعزالية، أحب الفضاءات المفتوحة كالمقاهي والحانات، فهي عبارة عن مجتمعات صغيرة التقط فيها تناقضات الناس وأقنعتهم، أفراحهم و أحزانهم، لذلك فضلت الكتابة عن الهامش مكسرا التابوهات التي تخنق مجتمعنا..”.
ساهمت في الحقل الثقافي وحاولت أن أكون صادقا مع نفسي ومع القارئ
ولأن الختام لم يكن ليكون مسكا دون ختم هذا الحفل بكلمة للمحتفى به، فإن با ادريس تناول الكلمة وشكر فيها جريدة المنعطف التي خصته بهذا الاحتفاء، وبهذه اللحظة التي اجتمع فيها الاصدقاء ورفاق الدرب في الكتابة والإبداع، مثلما شكر الحضور والمبدعين، قائلا بنبرة غير القادر على إخفاء فرحة التأثر بأجواء هذه اللحظة التي ستظل بلا شك موشومة في ذاكرة كاتبنا الكبير، شكرا لكم..شكرا..شكرا..
هي لحظة، قد تؤثث لأحد عوالمه الحكائية في القصة، ولمَ لا ؟ فهو الكاتب الذي برع في التقاط كائناته ومتخيلاته من الأمكنة التي يرتادها، أو ترداده مثل هذه اللحظة التي ارتدات جزءا من زمنه في أحد فضاءات العاصمة التي شكلت وتشكل جزءا مهما من زمكانية العالم الذي تتمحرق فيه أسئلته وتأملاته قبل أن تصبح كائنات قصصية.
قال الخوري، أشكركم جميعا على مجيئكم لسماع صوتي، مشيرا بروح المتواضع المثقل بالانتماء إلى أبناء الشعب البسطاء، إلى أن ما قيل في حقه هو كثير وكبير، لا يعكس سوى امرا واحدا، وهو حب الناس والمبدعين والمثقفين له، عرفانا واعترافا بما حققه من تراكمات وكتابات كثيرة ومتنوعة، موزعة بين حقول وأنماط مختلفة في الكتابة، من القصة القصيرة إلى المقالة الأدبية إلى أدب الرحلات، قائلا:” لا اعرف أني أعطيت كثيرا، ولكن مهما يكن فإنني ساهمت في الحقل الثقافي وحاولت أن أكون صادقا مع نفسي ومع القارئ…أتمنى أن تعجب كتاباتي الناس، وهم أحرار في اتخاذ أي موقف…”، كلام كبير من كاتب كبير، يؤمن بالاختلاف في السياسة، كما في الرأي حول ما يبدعه، لأن الكتابة في رأيه، هي ببساطة أخذ ورد، تخضع لتجاذبات نفسية وموضوعية، تأتي أحيانا جيدة، وأحيانا تكون ضعيفة، وأخرى قد تكون، حسب إدريس الخوري لا شيء، ومستحيل يضيف كاتبنا الكبير، أن يبلغ الكاتب منتهاه، لأن الكتابة بهذا المعنى حالات خاصة.