كلمة الأخ عمر الحسني التأبينية بمناسبة إحياء أربعينية الفقيد التهامي الخياري

– فقدنا قائدا سياسيا فذا .. ذا قدرات استثنائية في تحليل المعطيات السياسية واستكناه مغازيها ودلالاتها واستشراف احتمالات تطورها.
– يغيب عنا الفقيد التهامي الخياري وبلادنا في أمس الحاجة إلى رجال دولة من هذه الطينة في هذه الظرفية الدقيقة .
– كل نفس ذائقة الموت
– ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام
– وإنا لله وإنا إليه راجعون
السيدات والسادة المحترمون
الحضور الكريم
كما التأمنا في تشييع جثمان الفقيد العزيز التهامي الخياري، نلتئم اليوم مرة أخرى لتوديعه..
نودع الفقيد التهامي الخياري، ونحن غير مصدقين بعد أنه رحل عنا.. كيف نصدق، وهو الذي طبع حياة الكثير منا بلحظات مشتركة على مدى عقود من مساره النضالي المتواصل.. والذي بصم بقوة وبمداد لا ينمحي مسار الحركة الوطنية التقدمية الديمقراطية خلال أزيد من خمسة عقود.. كمناضل وهب حياته لخدمة الوطن في مختلف المواقع والمحطات التي عبرها واجتازها..
في مختلف مراحل حياته منذ شبابه، ظل حب الوطن يسكن وجدانه، ويضخ في كيانه التوق الدائم لخدمة الوطن والتضحية من أجله.. بحماس وهاج لم يخب قط.. وبسخاء فياض، في نكران ذات، لا ينتظر جزاء ولا شكورا.. فكان حبه للوطن يرقى إلى مرتبة : حب الأوطان من الإيمان..
بصم الفقيد بقوة، وبمداد لا ينمحي، وعلى امتداد عقود، على مسار الكفاح من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فاقتحم مختلف دروبه، مهما كانت صعابها ومخاطرها.. اقتحمها بشجاعة ووعي كمناضل وسط مختلف الشرائح الشعبية في المجتمع.. ومكنته مؤهلاته الفكرية التي اغتنت بتجاربه النضالية المكثفة والمتعددة الواجهات، وما ملكه الفقيد من حدس سياسي نادر، وذكاء وقاد، وقدرة على استشراف آفاق المستقبل. مكنه من احتلال موقع متميز وسط الحركة التقدمية الديمقراطية، كقائد سياسي فذ، ذي قدرات استثنائية في تحليل المعطيات السياسية واستكناه مغازيها ودلالاتها، واستشراف احتمالات تطورها.. فكان بفضل ذلك ذا نظرة مستقبلية ثاقبة، تسمح له برسم معالم طريق العمل والفعل السياسي والتأطيري.. ومن هنا كانت قدرته على التجديد في العمل السياسي، وارتياد آفاق جديدة على الدوام، فكرا وممارسة بعيدا عن أي تجريبية أو انسياق وراء الأوهام. وكان وراء تماسك وتبلور كاريزميته، صدقيته ونزاهته السياسية …
صلب ثابت في مبادئه، ينبذ الدوغمائية، منفتح على كل ما يغني مبادئه ويثريها. يفعل ما يقول، ويقول جهرا ما يقوله سرا، فلم يكن الخطاب المزدوج يجد طريقا إلى سلوكه أبدا. مشبع دائما بروح المسؤولية، مهما كلف ذلك من ثمن.
ثراء تجربته ورصيده الفكري والعملي، السياسي والمجتمعي.. هي الثروة الوحيدة التي جمعها الفقيد خلال حياته.. ولا ثروة غيرها، رغم ما كان متاحا له في مواقع متعددة.. فكانت العفة والتعفف هما دستوره الشخصي.. وما أغلاها وما أغناها من ثروة، تلك التي خلفها الفقيد.. هي ثروة غالية لأنها قابلة للاقتسام بين كل الناس .. ثروة غير قابلة للتبذير، وهي قابلة للاستثمار لمواصلة الطريق الذي سلكه الفقيد، روما لعزة الوطن، وكرامة المواطن.
تشرب الفقيد روح الوطنية وهو شاب يافع في كنف عائلته المناضلة التي أبلت البلاء الحسن في الكفاح الوطني ضد الاستعمار، وقدمت في ذلك ما لزم من تضحيات.. هذه الروح الوطنية، هي التي شكلت ركيزة ومنطلق مساره النضالي، ووجهت نشاطه وسط الحركة التقدمية الديمقراطية للعقود اللاحقة. سواء في صفوف الحركة الطلابية التي تبوأ فيها عن جدارة موقعا قياديا بالإتحاد الوطني لطلبة المغرب، أو في صفوف الحركة السياسية التقدمية التي كان أحد أبرز قادتها، من حزب التحرر والاشتراكية إلى حزب التقدم والاشتراكية. أو على رأس جبهة القوى الديمقراطية التي أسسها وقادها وأطرها.
ولعل جبهة القوى الديمقراطية التي استثمر فيها رصيده السياسي وتجربته النضالية الطويلة، هي الإطار الذي جسد وكثف تفعيل هذا الرصيد وهذه التجربة.
لقد كان هاجسه في تأسيس جبهة القوى الديمقراطية نهاية التسعينات من القرن الماضي، هو الإستجابة لحاجة التجديد السياسي والتنظيمي التي كانت تفرضها هذه الفترة. فعقد التسعينات من القرن الماضي كان عقدا مفصليا في تاريخنا المعاصر. حيث كان شعار المؤتمر التأسيسي للجبهة هو : ” تصور جديد لمغرب جديد”، واجتهد الفقيد على رأس جبهة القوى الديمقراطية، لتكون إضافة نوعية تعزز صفوف الحركة التقدمية الديمقراطية، بأفكار جديدة، بفضاءات تنظيمية وتأطيرية جديدة .
وأدبيات الجبهة تشهد على ثراء الإجتهاد الذي أغنى رصيد الحركة التقدمية والديمقراطية. وعلى المستوى التنظيمي، كانت الفعاليات ذات التجربة الحزبية هي الأقلية القليلة جدا في محطة التأسيس بينما كانت الأغلبية الساحقة فعاليات سياسية لم تمارس أي نشاط حزبي من قبل.
وكانت إحدى الهواجس الأساس للفقيد، من موقع جبهة القوى الديمقراطية، هو السعي الدائم إلى مد الجسور نحو مختلف فصائل الحركة التقدمية الديمقراطية، للعمل من أجل بناء وحدة اليسار، بتعدده، لأن الفقيد كان راسخ القناعة بأن مشروع اليسار يستمد ضروريته من حاجة مجتمعية تظل قائمة رغم ما عرفه العالم من تغيرات في ثمانينات القرن الماضي. مشروع اليسار المغربي، القادر على تجديد فكره، وتجديد آليات عمله، واستعادة موقعه الريادي في قيادة النضالات الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والكرامة الإنسانية.
يسار منفتح على مختلف القوى الديمقراطية الحداثية والسياسية والمجتمعية، ومتعاضد معها لإنجاز مهام المرحلة التاريخية التي تجتازها بلادنا.
السيدات والسادة الأفاضل
الحضور الكريم
تستحيل الإحاطة بمختلف جوانب مسار الفقيد في هنيهات من الوقت.
فالفقيد بجانب عمله السياسي، كان رجل علم تشهد له أجيال من الباحثين الذين تتلمذوا على يديه، سواء بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، أو بجامعة محمد الخامس، أو بالمعهد العالي للصحافة، أو من خلال اشتغاله كباحث سوسيولوجي، خاصة مع بول باسكون.
فكان الرصيد الفكري للفقيد سندا قويا يغني تصوراته السياسية، ويثري مبادراته واجتهاداته. وكان احتكاكه عن قرب بمختلف مدارس الفكر السياسي التقدمي العالمي، فضلا عن تشبعه بالثقافة الوطنية الأصيلة، مصدر اتساع آفاقه الفكرية. فكان الفقيد ينهل من أرقى ما وصله الفكر التقدمي العالمي، ومن قيمه الإنسانية النبيلة، واضعا على الدوام مسافة واضحة بين ما يغني ويعضد أصالة الفكر السياسي الوطني، وبين ما لا يتلاءم معه.
وفوق هذا كله، كان الفقيد رجل دولة من الطراز الرفيع، أبان عن حنكة خاصة في تدبير الشؤون العامة، في كل المواقع التي تبوأها، كوزير، كبرلماني، وكقائد حزبي.
يغيب عنا الفقيد التهامي الخياري، وبلادنا في أمس الحاجة إلى رجال دولة من هذه الطينة في مختلف هذه المواقع وغيرها.
كان الفقيد، بالرغم من التقلبات السياسية التي شهدتها بلادنا خلال العقود الماضية، وتلاطم أمواجها، ثابتا في التمسك بأولوياته. وكانت أولوية أولوياته قضايا الوطن العليا ومقدسات الأمة، وفي مقدمتها، قضية الوحدة الترابية والسيادة الوطنية، التي كانت على الدوام حاضرة في كل حركاته وسكناته، داخل الوطن وخارجه. الذود عن الوطن وقضاياه ومقدساته هو المعيار الذي كان يحتكم إليه دوما في كل مواقفه السياسية.
كانت صيانة امن واستقرار بلادنا، هاجسه الأساس. لقد كان الفقيد راسخ القناعة، أنه لا تنمية ولا ديمقراطية ولاهم يحزنون بدون صيانة أمن البلاد واستقرارها الذي يجب أن يكون موقعه موقع البؤبؤ من العين في قناعة الفقيد.
وفوق هذا و تلك، التمسك بالمؤسسة الملكية، والتي هي نتاج اختيار أمة يضرب بجذوره في أعماق التاريخ وفي وجدان الشعب. ضامنة الوحدة والسيادة الوطنيتين، وضامنة الأمن والاستقرار، وراعية التقدم المغربي، وبانية أسس المجتمع الديمقراطي الحداثي الذي أضحى في عهد جلالة الملك محمد السادس اختيار أمة.
الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مفهومان لاينفصمان في فكر الفقيد التهامي الخياري، لذا اختار منذ البدء النضال في صفوف الحركة التقدمية الديمقراطية بمختلف دروبها وتشعباتها، مشبعا بالقيم الإنسانية الكونية النبيلة.
هذه بعض الثوابت الأساس التي لم يتزحزح قط قيد أنملة عن التشبت بها طيلة مساره السياسي الطويل.
كان الفقيد ديمقراطيا حتى النخاع في تفكيره وسلوكه. نعم لقد كان الفقيد شرسا في مواجهة خصومه السياسيين، لكنه في الوقت ذاته، كان مفعهما باحترام الآخر والرأي الآخر، ولم يكن يتردد قط في الأخذ بالرأي الآخر علنا جهارا عندما يقتنع به. لقد كان مفهوم النسبية مكونا بنيويا في تفكيره وخطابه. ومن هنا كان احترام الخصوم له كبيرا قبل الأصدقاء. لم يكن للفقيد عدو في حياته إلا الجمود.
لقد تعرفت على الفقيد مع بداية السبعينات وأنا طالب جامعي وعايشته عن قرب لأزيد من أربعين سنة وعايشته تقريبا في كل تفاصيل حياته السياسية خلال العقدين الأخيرين. ما سمح لي بالتعرف على الفقيد التهامي الخياري الإنسان. عرفت فيه دينامية العمل التي لاتنقطع، التفكير والسؤال اللذان لايتوقفان . عرفت فيه القدرة الاستثنائية على التحمل النفسي والجسدي، صلب ثابت لاتزعزه النوائب مهما كبرت . عرفت فيه صبرا وجلدا نادرين، يواجه الصعاب بشجاعة وثبات، تملؤه دائما ثقة راسخة في المستقبل السياسي المشرق للبلاد، ويدلو بدلوه دون كلل، يحاول، ويكرر المحاولة والمحاولة للإسهام في تحقيق هذا المستقبل المشرق.
كارزميته، لم تكن تمنعه من أن يكون بسيطا في معيشه اليومي، بل بساطته هذه وتواضعه الذي يخجل أي مجالس له، كان أحد أركان كارزميته.
عرفته صديقا ودودا يحفظ دائما ود الصداقة وحرارتها، يسدي الجميل وينساه، ويحفظ لمسديه الجميل العرفان ولا ينساه ,
تعرفت في معايشتي للفقيد، على أفراد أسرته وعائلته الكريمة، وتعرفت بذلك على تربة العزة والكرامة والعفاف التي عاش في محيطها الفقيد، مرخيا عليها أغصانا وارفة من الحنو والقيم الإنسانية المغربية الأصيلة.
ذكراه تطبع حيوات الكثير منا..لذا لا نصدق أن العزيز التهامي الخياري قد رحل عنا..
– لكن لا راد لقضاء الله وقدره
– وإنا لله وإنا إليه راجعون