عبد الرحيم لحبيب
تشكل أشغال المجلس الوطني، لجبهة القوى الديمقراطية، محطات حاسمة، يقف من خلالها الحزب، بكل مكوناته، على واقع و مستقبل الحياة السياسية و المجتمعية للبلاد، و ترتسم على ضوء أشغالها، بتقاريرها و ناقشاتها و ما يصدر عنها من قرارات و توصيات و بيانات، معالم مستقبل برنامج العمل السياسي و النضالي للجبهة، بما هي آليات لممارسة الديمقراطية الداخلية، تعزز و تجدد مسار و استمرارية الحزب، و تغذيه بالجرعات الضرورية لاستجماع أنفاسه، و تحريك ديناميته، ومواصلة الخطى، من أجل تحقيق مشروعه المجتمعي المنشود.
و قد شكلت أشغال المجلس الوطني للجبهة، على الدوام، مصدرا لاتخاذ قرارات هامة ، و بلورة مواقف جد متقدمة، باعتبارها فضاءات خصبة، للمطارحة و النقاش الموضوعيين و الدراسة و التحليل الجديين، لكل الملفات و القضايا الكبرى و المصيرية، التي ترهن واقع و مستقبل المواطن المغربي، داخل مجتمعه، و في ارتباط بمحيطه الإقليمي و الدولي، و بما هي مجال لتقديم الأفكار و المقترحات، و عرض البدائل و الحلول الممكنة، لما يشغل بال الوطن، بكل أبنائه وفئاته و شرائحه، على حد سواء.
كما تتميز أشغال المجلس الوطني، بكونها الإطار الأنسب، لتقييم أداء الحزب، و استحضار تراكماته الفكرية و النضالية، عبر تشريح مكامن الخصاص و القوة، في تخطيط برامجه، و تصريف أنشطته، و في القيام بما تستدعيه أولويات العمل، على جميع المستويات، بهدف تكثيف الجهود، و حشد التعبئة، في أوساط مناضلات و مناضلي الجبهة لمواصلة النضال، من أجل البناء التشاركي لمجتمع الحداثة و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
و تؤكد أشغال المجلس أهميتها، في تلمس مظاهر التشبث بمبادئ الحزب، و برصيده النضالي الثمين، و بشكل خاص ارتكاز تصوره الدائم، على المرافقة الحثيثة، بين السعي لإنجاز مهام مشروعه المجتمعي، تلبية لانتظارات المواطن لتحسين ظروف حياته، و تطلعاته الى الحرية و الكرامة و المساواة ، و بين الدفاع عن ثوابت الأمة المغربية، و ضمن أولوياتها قضية الوحدة الترابية للوطن.
كما أن أشغال المجلس الوطني، هي متنفس لتجديد المرجعيات الفكرية، و تحيين التصورات و الرؤى و المنطلقات، و رصد درجات تواجد الجبهة، في المشهد السياسي و الحزبي الوطني، و مدى النجاح، في تحقيق مشروع حزب اليسار الكبير، في إطار مساعيه للعمل التشاركي، مع قوى الديمقراطية و الحداثة، و هي أيضا، لحظة لقياس مكانة الجبهة داخل المجتمع، و في أوساط مختلف شرائحه، ليكون تقرير كل مرحلة بعينها، التعبير الأمثل على نوعية الخطاب السياسي، الذي ينتجه الحزب، في تفاعل مع خصوصيات، سياق و مستجدات الساعة.
و تتسم طبيعة أشغال دورات المجلس، بالتكثيف الرمزي، و غنى و تنوع الحمولات التاريخية لأبعاد و دلالات الشعارات و المواعد، التي يتم اختيارها، و انتقاؤها بعناية لانعقادها، و بخضوع بنية هذه التقارير لمنهجية، و بناء نسقي لعناصرها، تضع في الاعتبار، تحولات المناخ الدولي و الإقليمي، و تداعياتهما على الأوضاع السياسية، الاقتصادية و الاجتماعية بالمغرب، ثم تطرح، في المقام الأول، قضية الوحدة الترابية للمملكة، ضمن أولويات و ثوابت الأمة المغربية، تتدارس و تناقش أدق التفاصيل المستجدة في ملفها، و تعبر عن مواقف و قرارات الجبهة بشأنها.
و تعمق هذه الأشغال نقاشاتها و تحاليلها، بعد ذلك، حول الوضع العام الذي تعيشه البلاد، سياسيا و على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي، و من منظور، يضع المصلحة الوطنية فوق أي نقاش سياسي، أو مزايدات، أو أية اعتبارات أخرى، في محاولة للإجابة و المساهمة، في اقتراح الحلول الممكنة، للمعضلات و التحديات المطروحة، بموضوعية و تجرد، و وفق ما تمليه مبادئ و توجهات الجبهة، بما هي حزب ديمقراطي حداثي. و بما يجعل من القرير وثيقة مرجعية للتاريخ و الفكر و النضال.
إن مجرد استحضار لأبعاد و دلالات الشعارات، التي انتظمت تحتها دورات المجلس الوطني للجبهة، بحمولاتها التاريخية و الرمزية، يوضح جليا مدى عمق و تكثيف المبادئ و المنطلقات الفكرية، التي تتأسس عليها رؤى التجديد والاستمرارية، شعارات تختزل و تؤرخ لواقع المرحلة التي أنتجتها سياسيا، اقتصاديا، و اجتماعيا، و بما يتجاوب و نبض المجتمع المغربي.
*وهكذا كان شعار الدورة الثانية المنعقدة يوم10فبراير2013:
“استنهاض العمل السياسي للتعبئة من أجل تحصين الاقتصاد الوطني و تلبية المطالب الاجتماعية”.
حيث أبرزت أشغال الدورة، أن المواطن لم يلمس أي تغيير، في المشهدين السياسي و المجتمعي، في ظل غياب نقاش عمومي، حول تطبيق الدستور، و تأويله ديمقراطيا، و أن العديد من المؤسسات و الهيآت، لازالت تشتغل وفق الدستور القديم، الأمر الذي يحتم على الجبهة، الدعوة الى تنزيل مضامين الدستور الجديد، لاستنهاض العمل السياسي، مدخلا أساسيا لتعبئة المجتمع، من أجل تحصين الاقتصاد الوطني، و تلبية الحاجات و الأولويات الاجتماعية.
*و اتخذت الدورة الثالثة للمجلس المنعقدة في 3نونبر2013 شعارا لها:
” التزام متجدد لمواصلة البناء التشاركي لمجتمع الحداثة والديمقراطية”.
تأكيدا على أن الاختيارات الحكومية كلها، تسير في اتجاه تفويت الموعد مع التاريخ، في تحصين المكتسبات وتعزيزها بالإصلاحات الكبرى، وعدم الانتباه الى أولوية الحاجة الملحة، لإخضاع البلاد لمرحلة العهد الدستوري بعمقه و روحه و فلسفته، و من منطلق أن مشروع قانون مالية2014، يختزل وضعا اقتصاديا و اجتماعيا، ممعنا في الهجوم، على الطبقة المتوسطة و الفقيرة.
*فيما كان شعار الدورة الرابعة المنعقدة يوم 15يونيو2014:
” تفعيل الدستور مدخل للتحفيز على إنتاج الثروة و ضمان العدالة في توزيعها”.
و نبهت الجبهة في هذه الدورة، الى تدني الخطاب و الممارسة السياسية، مما يعزز موقف أعداء الديمقراطية، المتربصين بعمل الأحزاب السياسية و الجمعيات و عموم العمل المنظم، الجاد و المسؤول، داعية الى تفعيل الدستور، و إعمال مبدأ المساواة، بين الجميع في الحقوق و الواجبات، و تكريس مبدأ تكافؤ الفرص، و رفض ثقافة الريع و مواليها، و حماية المال العالم، و التوزيع العادل للثروة، و نهج سياسة إدماجية، في مختلف المجالات.
*و في الدورة الخامسة قررت الجبهة انعقادها يوم11يناير2015 تحت شعار:
” وحدة عضوية بين قضايا الوحدة الوطنية و البناء الديمقراطي”.
و انعقاد الدورة في هذا التاريخ بالذات، هو طريقة تحتفل بها الجبهة، بذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، بما تختزله من تضحيات و نضال، للانعتاق من نير الحماية، استحضارا منها للبطولات و التضحيات الجسام، التي خاضها أبناء الوطن، بروح وطنية عالية، و عزيمة قوية و صادقة، بعدالة قضية تحرير الوطن، و حفاظا على الذاكرة الوطنية، و الإرث النضالي الوطني، و المضي قدما بثبات، من اجل استكمال الوحدة الترابية للمملكة، و بناء مغرب الحداثة و المواطنة، مع تجديد التأكيد على الترابط العضوي بين معركتي البناء الديمقراطي والدود عن السيادة الوطنية.
كما رصدت الدورة للتحولات الدولية والإقليمية ،البالغة الدقة، و ثقلها على الوضع العام بالبلاد، و ذكرت بالانتصار الكبير للمملكة، باحتضانها للدورة الثانية، للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان بمراكش، كاعتراف دولي بالإنجازات، التي حققها المغرب، في مجال حقوق الإنسان.
كما شددت الدورة على أن 2015سنة الحسم، ونهاية الخيانة والريع، في النزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية، خاصة وبلادنا على مشارف إجراء أول سلسلة انتخابات، في ظل دستور فاتح يوليوز، تستدعي من الجبهة التعامل معها بمنطق الإسهام الفاعل، في بناء روابط الثقة.
*الدورة السادسة للمجلس الوطني التي انعقدت يوم26يوليوز2015 كان شعارها:
“خدمة المواطنين من خدمة الوطن“.
حيث انعقدت هذه الدورة، تزامنا مع تخليد الذكرى الثامنة عشرة لتأسيس الجبهة، و في خضم خوض الاستحقاقات الانتخابية للجماعات الترابية، مما جعلها تخصص جزءا مهما، من أشغالها للوقوف، على استعدادات الحزب، لربح رهانات هذا التحدي الانتخابي، و للدلالة على أن برنامج الانتخابي للجبهة، لهذه المرحلة أنبنى على محاور تصب كلها، في اتجاه ترسيخ، أن ثقافة خدمة الوطن تمر بالضرورة عبر خدمة المواطن، و طرح بديل واقعي لتدبير عقلاني للشأن العام المحلي، يجسد عمق اللا مركزية و يكرس إدارة القرب، بناء على قواعد الديمقراطية المحلية، الرامية إلى الارتقاء بالخدمات المقدمة للمواطنين.
الدورة سجلت تطلع الجبهة، لأن تكون 2015 نقطة التحول، لتكون الجماعة مصدرا للتنميـــــــة، وقطعا مع سوء التسيير والتدبير الجماعي، و منطلقا ﻹعادة زرع الثقة لدى المغاربة، في المؤسسات، و أكدت على أن اختيار شعار برنامجها الوطني “ف بلادنا كاين معا من”هو تكثيف واختيار عملي، تستشرف من خلالـــه اﻵفاق الواعدة للحزب، وتترجم صدقية، أن الجبهة حزب تنظيم لا حزب عدد؛ و أنها أكبر من أن تكون ممثلة، بما هي عليــــه، وبالنظر إلى حضورها في المجتمع.
*أما الدورة السابعة التي انعقدت يوم17يناير2016 فاختير شعارا لها:
“توفير شروط ممارسة التعددية السياسية ضمانة لصلابة الوحدة الوطنية”.
شكلت المذكرة المطلبية، التي وجهتها الجبهة الى الأحزاب المغربية، بشأن القوانين الانتخابية للتشريعيات المقبلة، مبادرة غير مسبوقة، و بديلا عمليا للفراغ، الذي يخيم على المشهد السياسي الوطني، بما تضمنته من محاور، من شأنها توفير شروط إنجاح الاستحقاق التشريعي القادم، فجاءت الدعوة إلى حوار وطني شامل، حول هذه الاستحقاقات، من اجل التوافق حول المنظومة الانتخابية، و درءا لسياسة الإقصاء و التهميش، و ضمانا لمشاركة كل الحساسيات الموجودة في المجتمع، في استحقاق أكتوبر 2016 ، و حتى لا تستمر السياسة في تأكيد مقولة أن من له رأي لا تمثيلية له، و من له تمثيلية لا رأي له.
و من أجل تحقيق هذا المطلب أكدت مذكرة الجبهة، على ضرورة استحضار، خصوصيات مكونات الهوية المغربية، في أي مشروع مجتمعي، و رفع الحيف الإعلامي، المضروب على عدد من الحساسيات الجادة، ثم الدعوة لأن تتعزز تمثيلية النساء، و الشباب، و أن تتحقق التمثيلية، لأفراد الجالية المغربية بالخارج، في المؤسسة التشريعية.
و اليوم 17يوليوز2016تنعقد الدورة الثامنة تحت شعار:
” التزام متجدد من أجل النموذج المغربي التنموي الديمقراطي المستدام”
و يتزامن انعقادها، على بعد أيام، من حلول الذكرى التاسعة عشرة، لتأسيس الجبهة (27 يوليوز1997)، استحضرا لتراكمات رصيدها السياسي الهام، و تجربتها النضالية، على امتداد قرابة عقدين من الزمن.
كما أنها محطة هامة، في رسم مستقبل الجبهة، بالنظر الى المدة، التي تفصل المغاربة عن موعد اقتراع الانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر المقبل، و التي لا تتعدى المائة يوم، تستدعي من كل فعاليات الحزب، تكثيف استغلالها، لوضع آخر اللمسات، حول الاستعداد الجماعي و التشاركي، للتحضير الجيد و المسؤول، لكل ما يرتبط بهذا الاستحقاق التشريعي المقبل، و حتى تكون الانتخابات المقبلة، محطة فارقة، ونقطة تحول، في مسار جبهة القوى الديمقراطية، لتحتل المكانة التي تليق بها، كهيأة سياسية جادة، في المشهد السياسي و داخل المجتمع.
إن تسارع الأحداث و تطوراتها، المرتبطة بالقضايا الكبرى، التي تشغل بال المواطنين، على الساحة السياسية الوطنية ، الإقليمية و الدولية، في الفترة الفاصلة بين هذه الدورة و التي سبقتها، يضع على عاتق مناضلات و مناضلي الجبهة، و من موقعها، كحزب جاد و مسؤول، تجنيد كافة الطاقات، وإطلاق العمل التعبوي الشامل، على المستويين الترابي والقطاعي، وتوظيف كل الوسائل المتاحة، لربح رهانات و تحديات المرحلة القادمة.
و عموما فدورات المجلس الوطني للجبهة، و تقاريرها، عبرت باستمرار، و طيلة الولاية التشريعية، للحكومة الحالية، منذ مجيئها، و الى اليوم ، عن الدعوة الصريحة و الواضحة، لتنزيل مضامين الدستور الجديد، و تأويله تأويلا ديمقراطيا، في مقابل التلكؤ و المناورة، التي نهجتها الحكومة، لتعطيل مؤسسات الدولة و المجتمع، على حد سواء، الى الحد، الذي حول الموضوع، الى مطلب و واجهة للنضال، أصبح معها مطلوب من قوى الديمقراطية و الحداثة وضعها ضمن أولوياتها اليومية.
لذلك فرهان المرحلة القادمة، و بشكل خاص، محطة الاستحقاق التشريعي لأكتوبر المقبل، يكمن في مدى وعي الدولة و المجتمع، بضرورة القطع مع ممارسات، تسبح ضد التيار، و مدى توفر إرادة جماعية، لتجاوز و استدراك هفوات التجربة الأولى، لحكومة أخلفت الموعد مع التاريخ، و خانت الوعد الذي قطعته على نفسها مع الشعب، و أفرغت الدستور من محتواه الديمقراطي، الحداثي.
رهان المرحلة اليوم ادن هو في مدى، تمكين المغرب، من الدخول الى مرحلة الزمن الدستوري، بما يحقق مصداقية و مشروعية المؤسسات، و يضمن المشاركة و التمثيلية الواسعة، لكل شرائح و حساسيات المجتمع، و وضع دقات و نبض المجتمع على سكة الدستور، من أجل إقلاع حقيقي، و انطلاقة أكيدة لمستقبل واعد يشارك في صنعه المغاربة كل المغاربة، مستقبل يتجدد فيه الالتزام من أجل النموذج المغربي التنموي الديمقراطي المستدام.