رجل افتقدناه.. التهامي الخياري و "مدرسة التجديد السياسي"

رجل افتقدناه.. التهامي الخياري و “مدرسة التجديد السياسي”
عبد الواحد الأشهب
قد تمر ذكرى عزيز غادرنا إلى دار البقاء كأية ذكرى نلهو عنها بفعل طاحونة الزمان، ولكن هناك صنف من الرجالات الذين تظل ذكراهم تلازمنا مهما طال الأمد و المدى على مغادرتهم إلى دار الفناء، وتكاد صورتهم و أحاديثهم وحكمهم تلازمنا على مدى العمر. والراحل العزيز التهامي الخياري هو من طينة هؤلاء الرجالات الذين طبعوا التاريخ السياسي و الفكري للمغرب المعاصر.
فعندما قرر في سنة 1997 تأسيس جبهة القوى الديمقراطية كحزب حداثي مجدد للفكر و الخطاب السياسيين، فإنه لم يقصد اجترار التجارب الحزبية السابقة، وإنما وظف رصيده النضالي الطويل و الثري للتأسيس لخطاب سياسي جديد ومجدد، يقطع مع عهد التباهي بالموروث و يستشرف المستقبل ويساير تطلعات و طموحات المواطنين نحو مغرب حديث يعيش مخاض التغيير والتطور كما يفرضه واقع سقوط جدار برلين و بروز نظام عالمي جديد اكثر واقعية وبراغماتية.
ولهذا ومنذ الإجتماعات التحضيرية للإعلان عن المولود الحزبي الجديد الذي رسم خطوطه العامة فقيدنا العزيز التهامي الخياري، ووصولا إلى المؤتمر التأسيسي ثم تشكيل هيئات الحزب وتنظيماته الموازية، تم التركيز على خطاب سياسي جديد من شأنه أن يقنع “المغربي الجديد” المتطلع إلى “مغرب جديد” بجدوى العمل السياسي، ولهذا بمجرد طرح وثائق الحزب في مؤتمره التأسيسي تقاطرت افواج المنخرطين في الحزب الجديد من كل حدب وصوب، من حديثي العهد بالعمل السياسي، من السياسيين المتمرسين، من الباحثين عن لغة يسار جديد، من قاطعين مع لغة الخشب ليمين غامض، من كل الأجيال، من الجنسين…لأنهم كلهم وبكل بساطة وجدوا في خطاب الجبهة شيئا جديدا و صوتا قويا يجيب على كل تساؤلات المرحلة.
ولهذا لم يكن غريبا أن يهتز المشهد الحزبي و السياسي عامة آنذاك بهذا الحدث البارز الذي صنعه هذا الوافد الجديد الذي استطاع، بفضل الفكر الثاقب للفقيد الخياري ومن تقاسم معه مخاض الميلاد، أن يزاوج بين الرصيد الغني الذي راكمه اليسار المغربي و المنظور الجديد للعمل السياسي الذي يبتغي مصالحة المواطن مع السياسة و جعل الشباب و النساء على الخصوص وعموم المواطنين يلجون السياسة من باب خدمة مصالح البلاد و العباد.
وبالتالي فالفقيد شكل حينها ومازال “مدرسة في التجديد السياسي” ، قاعدتها ملامسة الهموم اليومية للمواطن وسلوك سياسة القرب في التعرف على مشاكله و البحث عن الحلول الممكنة لها، وقمتها رعاية المصالح العليا للوطن. وكل هذا الرصيد الذي استطاع الفقيد وزملاؤه في خندق النضال ان يكونوه هو الذي جعل الإنخراطات في الحزب و في فكره تتم بسرعة مذهلة و مكن الحزب من تكوين فريق برلماني قوي ومن استقطاب رؤساء مجالس ترابية و مستشارين من كل انحاء المملكة ومن كل الأصناف، إضافة للتنظيمات المهنية و الحرفية، ما جعل الحزب الجديد مثالا في التنظيم و الإنضباط، خصوصا وانه جعل من اجتماعات هياكله المركزية والمحلية في مواعيدها سنة لا يمكن أن يحيد عنها احد.
وجاءت التجربة الحكومية التي خاضها الحزب بتدبير من الفقيد وبتشاور مع هياكل الحزب لتبصم على إنجاز باهر، تجلى أولا في كون الأمر يتعلق بأول حكومة لليسار المغربي بعد سنوات الرصاص وفي عهد الديمقراطية المغربية الحق التي لا علاقة لها بالعهد الزائف البائد، وثانيا لكونها أول تجربة لليسار لتدبير الشأن العام في ظرفية دقيقة وصف فيها الملك الراحل الحسن الثاني المغرب بانه “على شفى السكتة القلبية”، وبالتالي عقد الشعب على هذه التجربة السياسية الفريدة من نوعها التي قادها بنجاح الأستاذ عبدالرحمان اليوسفي آمالا واسعة، وأدلت الجبهة من موقعها ومن خلال الحقائب الوزارية المسندة إليها بدلوها ، ولازال التاريخ يشهد على الأداء أكثر من الرائع للفقيد الخياري سواء في قطاع الصيد البحري أو في قطاع الصحة، وهما قطاعان كانا آنذاك ملغومين بملفات ضخمة ومطوقين بلوبيات المصالح، فأبان الراحل عن قدرة نادرة في إدارة هذه الملفات و في تدبير الموارد البشرية للقطاعين بأسلوب جديد، شفاف و فعال يختزل كل معاني الحكامة الجيدة.
وعلى مستوى التدبير الحزبي ظلت الجبهة صامدة أمام رياح التغيير العاتية الذي هبت على المشهد السياسي بعد حكومة الأستاذ عبدالرحمان اليوسفي، ولم تزغ عن مبادئها وعن منهجها الراسخ بالحضور المستمر على الساحة عوض الظهور المناسباتي، ما أكسبها قوة وحضورا محترما بإمكاناتها الذاتية المحدودة إزاء الإمكانيات الهائلة لهيئات سياسية أخرى، منها المتجذر والوارد الجديد. وموازاة مع هذا الحضور السياسي المستمر و المنتظم ظلت جريدة المنعطف، لسان الحزب، والتي أدارها الفقيد كمدير لها بكفاءة كبرى و ضمن لها الإستمرارية، ظلت شامخة بدون توقف رغم ما فرضه التطور الإعلامي لبلادنا من مستلزمات مالية لا تقوى عليها حتى أعتد المنابر الصحافية في البلاد.
كل هذا ليس سوى غيض من فيض مما أسداه هذا الرجل الفذ لحزبه و للعمل السياسي الوطني و لبلده، مما لا تسعه المجلدات، وما هذه الكلمات سوى تعبير عن عرفان واعتراف بالأيادي البيضاء و البلاء الحسن لشخص خفق قلبه بحب الوطن و حين توقف عن النبض لم تتوقف وطنيته الجامحة، فرحمه الله وأجزل له العطاء في جنات عدن بجانب الصالحين.